قصائدنازك الملائكة



شجرة القمر
نازك الملائكة



  • 1

  • على قمّةٍ من جبال الشمال كَسَاها الصَّنَوْبَرْ

  • وغلّفها أفُقٌ مُخْمليٌّ وجوٌّ مُعَنْبَر ْ

  • وترسو الفراشاتُ عند ذُرَاها لتقضي المَسَاءْ

  • وعند ينابيعها تستحمّ نجومُ السَّمَاءْ

  • هنالكَ كان يعيشُ غلامٌ بعيدُ الخيالْ

  • إذا جاعَ يأكلُ ضوءَ النجومِ ولونَ الجبالْ

  • ويشربُ عطْرَ الصنوبرِ والياسمين الخَضِلْ

  • ويملأ أفكارَهُ من شَذَى الزنبقِ المُنْفعلْ

  • وكان غلامًا غريبَ الرؤى غامض الذكرياتْ

  • وكان يطارد عطر الرُّبَى وصَدَى الأغنياتْ

  • وكانت خلاصةُ أحلامِهِ أن يصيدَ القَمَرْ

  • ويودعَهُ قفصًا من ندًى وشذًى وزَهَرْ

  • وكان يقضِّي المساءَ يحوك الشباكَ ويَحْلُمْ

  • يوسّدُهُ عُشُبٌ باردٌ عند نبع مغمغِمْ

  • ويسْهَرُ يرمُقُ وادي المساء ووجْهَ القَمَرْ

  • وقد عكستْهُ مياهُ غديرٍ بَرُودٍ عَطِرْ

  • وما كان يغفو إذا لم يَمُرّ الضياءُ اللذيذ

  • على شَفَتيهِ ويسقيهِ إغماءَ كأسِ نبيذْ

  • وما كان يشربُ من منبع الماء إلاّ إذا

  • أراق الهلالُ عليه غلائلَ سكرى الشَّذَى

  • 2

  • وفي ذات صيفٍ تسلّل هذا الغلامُ مساءْ

  • خفيفَ الخُطَى, عاريَ القدمين, مَشُوقَ الدماءْ

  • وسار وئيدًا وئيدًا إلى قمَّةٍ شاهقهْ

  • وخبّأ هيكلَهُ في حِمَى دَوْحةٍ باسقهْ

  • وراح يعُدّ الثواني بقلبٍ يدُقّ يدُقّ

  • وينتظرُ القَمَرَ العذْبَ والليلُ نشوانُ طَلْقُ

  • وفي لحظةٍ رَفَعَ الشَّرْقُ أستارَهُ المُعْتمهْ

  • ولاحَ الجبينُ اللجينيّ والفتنةُ المُلْهِمهْ

  • وكان قريبًا ولم يَرَ صيّادَنا الباسما

  • على التلِّ فانسابَ يذرَعُ أفْقَ الدُّجَى حالما

  • ... وطوّقَهُ العاشقُ الجبليّ ومسّ جبينَهْ

  • وقبّلَ أهْدابَهُ الذائباتِ شذًى وليونهْ

  • وعاد به: ببحارِ الضِّياءِ, بكأس النعومهْ

  • بتلك الشفاهِ التي شَغَلتْ كل رؤيا قديمهْ

  • وأخفاه في كُوخه لا يَمَلّ إليه النَّظَرْ

  • أذلكَ حُلْمٌ? وكيف وقد صاد.. صادَ القَمرْ?

  • وأرقَدَه في مهادٍ عبيريّةِ الرّوْنقِ

  • وكلّلَهُ بالأغاني, بعيْنيهِ, بالزّنْبقِ

  • 3

  • وفي القريةِ الجبليّةِ, في حَلَقات السّمَرْ

  • وفي كلّ حقلٍ تَنَادَى المنادون: "أين القمر?!"

  • "وأين أشعّتُهُ المُخْمليّةُ في مَرْجنا?"

  • "وأين غلائلُهُ السُّحُبيّة في حقلنا?"

  • ونادت صبايا الجبالِ جميعًا "نُريدُ القَمَرْ!"

  • فردّدتِ القُنَنُ السامقاتُ: "نُريدُ القَمَرْ"

  • "مُسامِرُنا الذهبيّ وساقي صدى زَهْرنا"

  • "وساكبُ عطر السنابِل والورد في شَعْرنا"

  • "مُقَبّلُ كلّ الجِراح وساقي شفاه الورودْ"

  • "وناقلُ شوقِ الفَرَاشِ لينبوعِ ماءٍ بَرودْ"

  • "يضيءُ الطريقَ إلى كلّ حُلْمٍ بعيدِ القَرَارْ"

  • "ويُنْمي جدائلَنا ويُريقُ عليها النُّضَارْ"

  • "ومن أينَ تبرُدُ أهدابُنا إن فَقَدْنا القَمَر?"

  • "ومَنْ ذا يرقّقُ ألحاننا? مَن يغذّي السّمَرْ?"

  • ولحنُ الرعاةِ تردّدَ في وحشةٍ مضنيهْ

  • فضجّتْ برَجْعِ النشيدِ العرائشُ والأوديهْ

  • وثاروا وساروا إلى حيثُ يسكُنُ ذاكَ الغُلامْ

  • ودقّوا على البابِ في ثورةٍ ولَظًى واضطرامْ

  • وجُنّوا جُنُونًا ولم يَبْقَ فوق المَرَاقي حَجَرْ

  • ولا صخرةٌ لم يُعيدا الصُّرَاخَ: "نُريدُ القَمَرْ"

  • وطاف الصّدَى بجناحَيْهِ حول الجبالِ وطارْ

  • إلى عَرَباتِ النجومِ وحيثُ ينامُ النّهَارْ

  • وأشرَبَ من نارِهِ كلّ كأسٍ لزهرةِ فُلِّ

  • وأيقَظَ كلّ عبيرٍ غريبٍ وقَطْرةِ طلِّ

  • وجَمّعَ مِن سَكَراتِ الطبيعةِ صوتَ احتجاجْ

  • ترددَ عند عريش الغلامِ وراء السياجْ

  • وهزَّ السكونَ وصاحَ: "لماذا سَرَقْت القَمَرْ?"

  • فجُنّ المَسَاءُ ونادى: "وأينَ خَبَأْتَ القَمَرْ?"

  • 4

  • وفي الكوخِ كان الغلامُ يضُمّ الأسيرَ الضحوكْ

  • ويُمْطرُهُ بالدموع ويَصْرُخُ: "لن يأخذوك?"

  • وكان هُتَافُ الرّعاةِ يشُقّ إليهِ السكونْ

  • فيسقُطُ من روحه في هُوًى من أسًى وجنونْ

  • وراح يغنّي لملهِمه في جَوًى وانْفعالْ

  • ويخلطُ بالدَّمْع والملح ترنيمَهُ للجمالْ

  • ولكنّ صوتَ الجماهيرِ زادَ جُنونًا وثورهْ

  • وعاد يقلِّبُ حُلْمَ الغلامِ على حدِّ شفرهْ

  • ويهبطُ في سَمْعه كالرّصاص ثقيلَ المرورْ

  • ويهدمُ ما شيّدتْهُ خيالاتُهُ من قصور

  • وأين سيهرُبُ? أين يخبّئ هذا الجبينْ?

  • ويحميهِ من سَوْرة الشَّوْقِ في أعين الصائدين?

  • وفي أيّ شيء يلفّ أشعَّتَهُ يا سَمَاءْ

  • وأضواؤه تتحدّى المخابئَ في كبرياءْ?

  • ومرّتْ دقائقُ منفعِلاتٌ وقلبُ الغُلامْ

  • تمزِّقُهُ مُدْيةُ الشكِّ في حَيْرةٍ وظلامْ

  • وجاء بفأسٍ وراح يشقّ الثَّرَى في ضَجَرْ

  • ليدفِنَ هذا الأسيرَ الجميلَ, وأينَ المفرْ?

  • وراحَ يودِّعُهُ في اختناقٍ ويغسِلُ لونهْ

  • بأدمعِه ويصُبّ على حظِّهِ ألفَ لعنَهْ

  • 5

  • وحينَ استطاعَ الرّعاةُ المُلحّون هدْمَ الجدارْ

  • وتحطيمَ بوّابةِ الكوخ في تَعَبٍ وانبهارْ

  • تدفّقَ تيّارهم في هياجٍ عنيفٍ ونقمهْ

  • فماذا رأوا? أيّ يأسٍ عميق وأيّة صَدْمَهْ!

  • فلا شيءَ في الكوخ غيرَ السكون وغيرَ الظُّلَمْ

  • وأمّا الغُلامُ فقد نام مستَغْرَقًا في حُلُمْ

  • جدائلُهُ الشُّقْرُ مُنْسدلاتٌ على كَتِفَيهِ

  • وطيفُ ابتسامٍ تلكّأ يَحلُمُ في شفتيهِ

  • ووجهٌ كأنَّ أبولونَ شرّبَهُ بالوضاءهْ

  • وإغفاءةٌ هي سرّ الصَّفاءِ ومعنى البراءهْ

  • وحار الرُّعاةُ أيسرقُ هذا البريءُ القَمَرْ?

  • ألم يُخطِئوا الاتّهام ترى? ثمّ... أينَ القَمَرْ?

  • وعادوا حَيارى لأكواخهم يسألونَ الظلامْ

  • عن القَمَر العبقريّ أتاهَ وراءَ الغمامْ?

  • أم اختطفتْهُ السَّعالي وأخفتْهُ خلفَ الغيومْ

  • وراحتْ تكسّرُهُ لتغذّي ضياءَ النجومْ?

  • أمِ ابتلعَ البحرُ جبهتَهُ البضّةَ الزنبقيّهْ?

  • وأخفاهُ في قلعةٍ من لآلئ بيضٍ نقيّهْ?

  • أم الريحُ لم يُبْقِ طولُ التنقّلِ من خُفِّها

  • سوى مِزَقٍ خَلِقاتٍ فأخفتْهُ في كهفها

  • لتَصْنَعَ خُفّينِ من جِلْدِهِ اللّين اللَّبَنيّ

  • وأشرطةً من سَناهُ لهيكلها الزنبقي

  • 6

  • وجاء الصباحُ بَليلَ الخُطَى قمريّ البرُودْ

  • يتوّجُ جَبْهَتَهُ الغَسَقيَّةَ عِقْدُ ورُودْ

  • يجوبُ الفضاءَ وفي كفّه دورقٌ من جَمالْ

  • يرُشّ الندى والبُرودةَ والضوءَ فوق الجبالْ

  • ومرَّ على طَرَفَيْ قدمَيْه بكوخ الغُلامْ

  • ورشَّ عليه الضياءَ وقَطْرَ النَّدى والسَّلامْ

  • وراح يسيرُ لينجز أعمالَهُ في السُُّفُوحْ

  • يوزِّعُ ألوانَهُ ويُشِيعُ الرِّضا والوضوحْ

  • وهبَّ الغلامُ مِنَ النوم منتعشًا في انتشاءْ

  • فماذا رأى? يا نَدَى! يا شَذَى! يا رؤى! يا سماءْ!

  • هنالكَ في الساحةِ الطُّحْلُبيَّةِ, حيثُ الصباحْ

  • تعوَّدَ ألاَّ يَرَى غيرَ عُشْبٍ رَعَتْهُ الرياحْ

  • هنالكَ كانت تقومُ وتمتدّ في الجوِّ سِدْرَهْ

  • جدائلُها كُسِيَتْ خُضْرةً خِصْبةَ اللون ِثَرَّهْ

  • رعاها المساءُ وغذَّت شذاها شِفاه القَمَرْ

  • وأرضَعَها ضوءُه المختفي في الترابِ العَطِرْ

  • وأشربَ أغصانَها الناعماتِ رحيقَ شَذَاهُ

  • وصبَّ على لونها فضَّةً عُصِرَتْ من سَناهُ

  • وأثمارها? أيّ لونٍ غريبٍ وأيّ ابتكارْ

  • لقد حار فيها ضياءُ النجومِ وغارَ النّهارْ

  • وجُنّتْ بها الشَّجَراتُ المقلِّدَةُ الجامِدَهْ

  • فمنذ عصورٍ وأثمارُها لم تَزَلْ واحدهْ

  • فمن أيِّ أرضٍ خياليَّةٍ رَضَعَتْ? أيّ تُرْبهْ

  • سقتْها الجمالَ المفضَّضَ? أي ينابيعَ عذْبَهْ?

  • وأيةُ معجزةٍ لم يصِلْها خَيالُ الشَّجَرْ

  • جميعًا? فمن كلّ غُصْنٍ طريٍّ تَدَلَّى قَمَرْ

  • 7

  • ومرَّتْ عصورٌ وما عاد أهلُ القُرى يذكرون

  • حياةَ الغُلامِ الغريبِ الرُّؤى العبقريِّ الجُنون

  • وحتى الجبالُ طوتْ سرّه وتناستْ خطاهُ

  • وأقمارَهُ وأناشيدَهُ واندفاعَ مُناهُ

  • وكيف أعادَ لأهلِ القُرى الوالهين القَمَرْ

  • وأطلَقَهُ في السَّماءِ كما كانَ دونَ مقرْ

  • يجوبُ الفضاءَ ويَنْثرُ فيه النَّدَى والبُرودهْ

  • وشِبْهَ ضَبابٍ تحدّر من أمسياتٍ بعيدهْ

  • وهَمْسًا كأصداء نبعٍ تحدّر في عمْق كهفِ

  • يؤكّدُ أنَّ الغلامَ وقصّتَهُ حُلْمُ صيفِ



أعمال أخرى نازك الملائكة



المزيد...

العصور الأدبيه

اغرب الرياضات في العالم لم تسمع عنها من قبل !

اغرب الرياضات في العالم لم تسمع عنها من قبل !



ماذا يجب أن تعرف عند شراء شقتك؟